بين نهر جقجق ونهر كايي
بين نهر جقجق ونهر كايي: حين تُصبح التنمية رهينة للذاكرة والبيئة
بحث علمي في التنمية الحضرية البيئية التشاركية
إبراهيم مسلم – دكتور مهندس في البيئة والزراعة العضوية
ملخص البحث
يركز هذا البحث على دراسة جدلية العلاقة بين التنمية الحضرية وحماية البيئة والذاكرة الجماعية، من خلال تحليل مشروع “تأهيل نهر جقجق” في مدينة قامشلو شمال شرق سوريا، ومقارنته بتجربة إعادة فتح نهر كايي في مدينة روان الفرنسية. يُظهر البحث كيف أن القرارات التخطيطية التي تتخذها البلديات قد تتحول، في غياب الشفافية والمشاركة المجتمعية، إلى ممارسات تهدد التوازن البيئي والهوية الحضرية. كما يقترح البحث بدائل واقعية للتنمية المستدامة، ويركز على أهمية إشراك السكان في رسم ملامح مدنهم.
مقدمة عامة
لطالما كانت الأنهار رمزًا للحياة في المدن، ليست فقط كمصادر للمياه، بل بوصفها محاور عمرانية، ورئات طبيعية، وذاكرات ثقافية تختزن التحولات المجتمعية عبر الزمن. ومع تطور المفاهيم الحضرية، باتت بعض السياسات ترى في النهر عائقًا أمام التوسع، لا فرصة للتنمية. في هذا السياق، يعيد مشروع “تأهيل نهر جقجق” في مدينة قامشلو فتح النقاش حول علاقة التنمية بالبيئة والذاكرة، خاصة عند مقارنته بتجارب مماثلة في مدن أوروبية مثل روان الفرنسية.
الفصل الأول: الإطار النظري والمنهجي
1.1 التنمية الحضرية المستدامة
يشير مفهوم التنمية المستدامة، كما ورد في تقرير “برونتلاند” 1987، إلى تلبية حاجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتها. وفي السياق الحضري، يعني ذلك تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي، العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة.
1.2 النهج التشاركي في التخطيط الحضري
أثبتت الأدبيات المعاصرة في التخطيط (Arnstein، Healey) أن إشراك المواطنين في صنع القرار يضمن مشاريع أكثر استدامة، ويقلل من مقاومة المجتمعات المحلية، خاصة عند التعامل مع موارد بيئية حساسة كالأنهار.
1.3 التفاعل بين البيئة والهوية الثقافية
الأنهار في المدن ليست مجرد مجارٍ مائية، بل هي “أماكن ذاكرة” (Nora, 1984)، تحافظ على التراث البصري، والأنماط الاجتماعية، وتؤثر في هوية المكان.
الفصل الثاني: الحالة الأولى – مشروع نهر جقجق في مدينة قامشلو
2.1 لمحة عن النهر والموقع
نهر جقجق ينبع من الأراضي التركية ويمر في قلب مدينة قامشلو، ويُعتبر أحد أبرز المعالم الطبيعية في المدينة، رغم ما يعانيه من تلوث مزمن وتراكم للنفايات نتيجة الإهمال وقصور البنية التحتية.
2.2 تفاصيل المشروع المقترح
تُظهر الوثائق الرسمية لبلدية الشعب في قامشلو تفاصيل المشروع كما يلي:
- إنشاء حوضي ترسيب في بداية النهر لفصل الرواسب الكبيرة.
- دفن مياه النهر الملوثة داخل قساطل إسمنتية ضخمة بطول 7 كيلومترات داخل حرم النهر.
- دمج مياه الصرف الصحي القادمة من أحياء قامشلو مع مياه النهر داخل هذه القساطل.
- ردم القساطل بالتربة وتغطية سطحها بطبقة من الحجارة المستوردة.
- تدفق مياه تركيا المحتمل: في حال أطلقت تركيا مياهًا، ستجري فوق القساطل في نفس حرم النهر.
- حفر ثلاثة آبار في بداية المشروع لتشغيلها وضخ المياه في القساطل عند انخفاض منسوب النهر.
- إقامة سوق تجاري على طول 400 متر من المجرى المغطى.
- إنشاء ممشى وتشجير فوق السرير المغطى.
تهدف هذه الإجراءات – بحسب التصور البلدي – إلى تحسين الواقع البيئي والعمراني للنهر.
إلا أن دمج مياه الصرف الصحي ودفن مجرى النهر الطبيعي يثيران مخاوف جدية تتعلق بتأثيرات بيئية بعيدة المدى، ويفتحان نقاشًا مهمًا حول فقدان عنصر مائي كان يمكن تأهيله بطرق مستدامة أكثر بدلًا من طمسه.
الفصل الثالث: تجربة نهر كايي في روان – دروس من فرنسا
3.1 لمحة تاريخية
في القرن الماضي، غطّت مدينة روان الفرنسية 500 متر من نهر كايي لبناء سوق ومواقف سيارات. لاحقًا، أدى هذا القرار إلى أضرار بيئية جسيمة، من ضمنها انسداد التصريف، زيادة التلوث، وتدهور نوعية الحياة.
3.2 التحول
في 2022، قررت “المتروبول” إعادة فتح مجرى النهر ضمن مشروع بيئي واسع، بعد ضغط من سكان ونشطاء بيئيين. كان لافتًا حجم الشفافية وإشراك اللاجئين والمجتمع المدني في العملية، من خلال ورشات عمل متعددة.
3.3 الدروس المستفادة
- لا تنمية بدون احترام الطبيعة.
- تغطية الأنهار تؤدي إلى نتائج عكسية على المدى الطويل.
- المشاركة الشعبية تخلق حلولًا أكثر قبولًا واستدامة.
الفصل الرابع: الأنهار في منظور مقارن – بين الشرق والغرب
المعيار | قامشلو (جقجق) | روان (كايي) |
نمط التخطيط | مركزي فوقي | تشاركي تعددي |
الهدف من المشروع | تجاري وبنية تحتية | بيئي واجتماعي |
حالة النهر | ملوّث ومهمل | أُعيد تأهيله تدريجيًا |
مشاركة السكان | شبه غائبة | عالية المستوى |
النتيجة المتوقعة | تغطية ودفن | إعادة فتح وتأهيل |
الفصل الخامس: بدائل تنموية مستدامة
5.1 معالجة المياه بدلاً من دفنها
إنشاء محطات معالجة مبتكرة تعتمد على الفلترة الطبيعية (Constructed Wetlands)، تسمح بتصفية مياه النهر تدريجيًا، دون الحاجة لدفنه.
5.2 المساحات العامة بدلاً من الأسواق
ضفاف النهر يمكن أن تتحول إلى ممشى ثقافي، حدائق، مسارات دراجات، ومعارض فنية، تعزز من جودة الحياة وتخلق وظائف عبر مشاريع صغيرة مستدامة.
5.3 الشفافية والمشاركة
- إشراك السكان من مختلف الخلفيات.
- تقديم المشروع بلغة مفهومة ومتعددة.
- تنظيم استبيانات وورشات قبل اتخاذ القرار النهائي.
الخاتمة: لا تنمية على أنقاض الطبيعة
مشروع نهر جقجق ليس فقط مشروعًا هندسيًا، بل لحظة فارقة في تعريف نوع التنمية التي نريدها.
تُثبت تجربة نهر كايي في فرنسا أن أخطاء الماضي قابلة للتصحيح، وأن النهر ليس “عقبة”، بل فرصة لبناء مدينة تتنفس وتحتفظ بذاكرتها.
التنمية الحقيقية هي تلك التي تنظر بعيدًا، وتبني بتأنٍ، وتحترم الإنسان والطبيعة على حد سواء.
المراجع
- Brundtland Report, 1987 – “Our Common Future”, UN.
- Arnstein, S.R. (1969). A Ladder of Citizen Participation.
- Healey, P. (1997). Collaborative Planning: Shaping Places in Fragmented Societies.
- Nora, P. (1984). Les lieux de mémoire.
- Rapport du Métropole de Rouen, 2022 – Réouverture écologique de la Cailly.
- بيانات بلدية الشعب في قامشلو – إعلان رقم (22)، 2025.
- مقابلات ميدانية وملاحظات شخصية – إبراهيم مسلم، 2022-2025.
الكاتب
إبراهيم مسلم
دكتور مهندس في البيئة والزراعة العضوية
باحث في التنمية المستدامة والتخطيط البيئي
عضو جمعية “الجدائل الخضراء البيئية”
أغسطس 2025.